المجتمع المزالي والتشريع الاسلامي

*

* * *

المجتمع المزالي والتشريع الاسلامي

* * *

يرجع سبب كتابتي لهذا الموضوع، لأستاذنا المزالي الكبير الصافي مومن علي، لتأكيد ما جاء في مقالاته العديدة حول القضايا الأمازيغية، ومنها موضوع (الاصل المشترك لنظام التشريع السياسي الامازيغي والامريكي) وموضوع (الميزات العقلانية المجهولة لنظام التشريع السياسي الأمازيغي)، وأهم هذه الميزات تتلخص في سبعة مبادئ هي: العقل والمساواة والعدالة والحرية والكرامة والديموقراطية والسعادة الاجتماعية، انظر أعمال الأستاذ الصافي في مدونة أعلام قبيلة أيت مزال، وقد تناول فيها دراسة لجانب من الحضارة الأمازيغية، وأن الأمازيغيين القدماء حينما أسندوا السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية لمجالسهم الجماعية المكونة من نواب نسيجهم المجتمعي، فذاك يفيد ضمنيا أنهم قد تنازلوا لهذه المجالس عن تلك السلطات التي كانت لكل واحد منهم، والشاهد على صحة ما ذكره الأستاذ الصافي، وتأكيدا لذلك، سأعرض فيما يلي مثالا من قبيلة أيت مزال، وكيف كان نظامها الاجتماعي قديما، يسير نفسه بنفسه طبقا للتشريع الاسلامي المضبوط، على غرار باقي المناطق السوسية.

وسأدرج فيما يلي قصة سيدة مزالية قديمة، من أهل القرن 18 الميلادي، طواها النسيان، وغابت في مجاهل الزمان، ولا يعرف عن قضيتها أي إنسان، لولا وثائقها التي خلدت ذكرها، وحافظت عليها في حياتها، وتناقلتها الأسر المتعاقبة بعدها، الى أن قدر لها أن تظهر الى الوجود ونلمسها بأيدينا، ونستطلعها بأعيننا، لتكون حجة دامغة ودليلا قاطعا من الأدلة والحجج القوية التي تشهد على تاريخ منطقة أيت مزال خاصة والقطر السوسي عامة.

تنتمي هذه السيدة المزالية الى عائلة منقرضة لم يبق منها أي فرد في عصرنا الحاضر، وكانت تعيش بقرية توريرت ايزوكاين، وقد نشأت يتيمة الأبوين، وعند بلوغها سن الرشد، رغبت في الزواج من خطيبها الذي تقدم لخطبتها في قرية أمرزكان المجاورة، والذي ينتمي بدوره لعائلة (أيت يعز) المنقرضة أيضا، لكن أهلها كانوا غائبين خارج القبيلة، ومنهم ابن عمها المهاجر الى مراكش والذي غاب عنها غيبة طويلة ومتصلة، ولم تجد وليا شرعيا يقوم بتزويجها طبقا للشريعة الاسلامية، فوكلت أمرها لقاضي البلاد الذي كان مقره في سوق أيت باها، فكلف هذا الأخير شيخ قبيلة أيت مزال بصفته مسؤولا عن رعية منطقته، أن يتولى أمر تزويجها لخاطبها، تلافيا لضياع حقوقها الانسانية، وقد نفذ الشيخ هذا الأمر القضائي حيث كلف بدوره أحد أعيان منطقة أفلا واسيف والقاطن بقرية سيصيض، وعينه وليا شرعيا مكلفا بتزويجها، وهذا ما يدل دلالة واضحة على أن المجتمع الأمازيغي القديم، كان منظما اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.

وفيما يلي ملخص لهذه القضية كما وردت في ثلاث وثائق تاريخية متسلسة زمانا ومكانا.

------------

الوثيقة الأولـى :

------------

(إشهاد بمعرفة) وفيه شهوده وهم : سيدي احمد بن ابراهيم بن سعيد بسيصيض الهشتوكي والطالب سيدي محمد بن احمد بن ابراهيم من المزابة (تافراوت) الهشتوكي، واحمد بن محمد بن سعيد أعراب من أيت عيسى ببيوكرى، يعرفون بأن عائشة بنت محمد بن علي بن الحسن من ربوة ايزوكاين (تاوريرت ايزوكاين) بأعلى الواد (أفلا واسيف) بهشتوكة بالغة وتحتاج للزوج وأنها دعت اليه، وأن احمد بن محمد بن مسعود بن يعز ابلق بأمرزكان الهشتوكي خطبها وركنت اليه كل الركون في سائر الأحوال، كما شهد الأول والثاني مع الشيخ سعيد بن سعيد بن احمد أفلك واحمد بن داود بن سعيد بسيصيض بأن الخاطب كفؤ لخطوبته لعائشة وشهدوا أن وليها وهو ابن عمها محمد بن سعيد بن علي بن الحسن غائب عن البلاد السوسية الى مراكش غيبة متصلة من مدة مولاي زيدان بن اسماعيل الى تاريخه، أي سنة 1723 م.

------------

الوثيقة الثانية :

-------------

(فتوى) وفيها أذن القاضي لمحمد بن داود بن سعيد ابوزيد بسيصيض، بأن يقوم بتزويج المخطوبة عائشة بنت محمد بن علي بن الحسن من ربوة ايزوكاين بأعلى الواد بهشتوكة لمن ركنت اليه وهو احمد بن محمد بن مسعود بن يعز ابلق بأمرزكان الهشتوكي بعد وكالتها إياه بمهر مثلها من مثله. وكتبها القاضي مبارك بن احمد بن يحيى الهشتوكي مؤكدا للشيخ سعيد بن سعيد بن احمد أفلك أن يقف لوليها حتى يزوجها لخاطبها، عام 1723 م.

------------

الوثيقة الثالثة :

------------

(عقد نكاح) احمد بن محمد بن مسعود ابلق من امرزكان الهشتوكي بزوجته عائشة بنت محمد بن علي بن الحسن ازوكاي من ربوة ازوكاين {وهي ترجمة لقرية تاوريرت ايزوكاين} وكيل الزوج هو سعيد بن محمد بن علي افلك، وكيل الزوجة هو محمد بن داود بن سعيد ابوزيد من سيصيض بعد ثبوت وكالتها اياه، وذلك بأمر القاضي العلامة سيدي مبارك بن احمد التدارتي البهاوي الهشتوكي، ووقوف شيخ قبيلة أيت مزال في ذلك الوقت، الشيخ سعيد بن سعيد افلك من ابي الضفادع {وأبو الضفادع ترجمة لقرية بيوكرى بقبيلة أيت مزال} مع الوكيل بأمر القاضي. بصداق قدره 100 أوقية ميزان اسماعيلية مع دارها بقرية أمرزكان بحدودها (قبلة السوكة بين الديور، يمين دار محمد بن احمد ابلق من نسبه، جوف/وشمال دار أيت حمو مع دار أيت سعيد بن مسعود من نسبه) وبقرتها. حالتها بكرة يتيم. وشهد نكاحها احمد بن محمد كعرب من ايت عيسى من ابي الضفادع والذي ضمن صداقها وجهازها على ذمته وماله. ويليه جهازها وجملته 3 مثقال. بتاريخ 15 جمادى الأولى عام 1135 هـ موافق 1723 م، كاتب العقد الفقيه سيدي محمد بن احمد بن ابراهيم بن احمد الهشتوكي من المزابة {والمزابة ترجمة لاسم تافراوت بقبائل أملن}، والفقيه سيدي احمد بن ابراهيم بن سعيد ابوزيد من سيصيض بأيت مزال.

---------------------

ونستنتج مما سبق هذا التماسك القبلي والتضامن الأهلي بين أفراد قبيلة أيت مزال، وذلك بأن حلوا محل أهل اليتيمة المنقطع عنها أهلها بالوفاة والهجرة، فأنقذوها من التشرد والضياع، وصار كل فرد منهم خلفا لوالديها وإخوانها وأهلها، والغريب في الأمر أن جميع أفراد اللجنة المكلفة بتأهيلها ينتمون الى منطقة واحدة، وهي أفلا واسيف أحد أقسام قبيلة أيت مزال، فلم يتدخل أي غريب عن المنطقة في حل مشاكلهم الاجتماعية، بل اعتمدوا على حلها بأنفسهم حسب قدرات فعالياتهم وتعليمات شيوخهم وإرشاد علمائهم، حتى قاضي البلاد الذي ينتمي الى قبيلة أيت باها التي تحتضن السوق العام المركزي في المنطقة، وهو سوق العربا نايت باها، والذي لازال موجودا الى عصرنا الحاضر، نراه لم يخالف عادة المجتمع السوسي حيث عين المكلفين من أهل المنطقة لاتمام مهام الزفاف كما يلي

الزوجــة : من قرية توريرت – من قرى أفلا واسيف

الــزوج : من قرية أمرزكان – من قرى أفلا واسيف

الشيـــخ : من قرية بيوكرى – من قرى أفلا واسيف

ولي الزوجة : من قرية سيصيض – من قرى أفلا واسيف

وكيل الزوج : من قرية بيوكرى – من قرى أفلا واسيف

العــدل : من قرية سيصيض – من قرى أفلا واسيف

فهل من شك بعد هذا العرض الوثائقي التاريخي الذي تفصلنا عنه ثلاثة قرون، أن قبيلة أيت مزال عالمة بأحوالها، واعية لأمورها، مدبرة لشؤونها، واثقة من تاريخها، عريقة في حضارتها، متمسكة بدينها، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي، لولا أن هدانا الله.

وختاما أرجو أن يكون هذا العرض المتواضع مساهمة في إثراء المواضيع والمقالات الغنية التي يصدرها أستاذنا الكبير الصافي مومن علي، وأن يكون هذا البحث مشاركة في تقريب الفهم لدى الباحثين، وتوضيح ما يرمي اليها الكاتب الكبير.

*

* * *

تحرير : محمد زلماضي المزالي

zalmadi.mohamed@yahoo.fr

* * *